الثلاثاء، ٤ ديسمبر ٢٠٠٧

الرؤية الفلسفية

قبل أن أبدأ وأخوض فى تحليل هذه القصة ، وأبين نظرة البدوى الفلسـفية ، أقول أنه أراد أن يصب رأيه فيما يشغله من القضايا التى تستحوذ على فكره وتفكيره فى أعمال فنية ، فالقضـايا الاجتماعية التى تشغل باله تتعلق بالأسرة والزوجة والعلاقة بينها وبين زوجها وقضاياها المضطربة على الأرض ، ومن ثم أستعين بالحوار الذى أجراه معه الناقد علاء الدين وحيد والمنشور فى مجلة "أسرتى" فى31يناير 1981 (مأخوذ من الكتاب المعنون باسم "محمود البدوى" للناقد علاء الدين وحيد..دار سنابل للنشر والتوزيع2000) .

يقول البدوى :


المرأة العربية كانت كلها طاعة وامتثال عن اقتناع وحب للرجل ، أما الآن فهى تنحو نحو التمرد على سلطة الرجل ، وفى بعضهن نشـاذ إلى درجة عدم الطاعة التى تتولد عن حرية مزعومة أو تتجاوز الحد . وإن ما يعيبها عامة فى الغالب هو أنها لاتراع ظروف عمل الزوج ، والكثـيرات منهن يمثلن عبئا على رجالهن فى أزماتهم . فالواحدة منهن لاتعايش أو تتعاطف مع ما يمر به الزوج من أحداث ولا تهون عليه أمرها ، بل تزيده تعبا وإرهاقا وشقاء ، بسبب جهلها النفسى ، فهى غالبا مهما تكن متعلمة ، ضيقة الأفق ، تشغل زوجها بأمور البيت .

وتربيـة الوالدين للأبنـاء هى الأصل ، بالإشراف الحقيقى للأب والأم ، فاعتناق المثل والتعود على الصدق والأمانة وحب الخير تنبع أولا من البيت .

وعلمـته مربيته التى تولته بعد وفاة والدته وكان فى السابعة من عمره ، علمته أن الاهتمام أو الحب لاينبع من داخل الأسرة فحسب ، بل يمكن أن يأتى من الخارج .

وتكالب المجتمع على المادة واختفاء العنصر الأخـلاقى وانمحاء الإيمان بالقيم والبعد عن الدين هى المسئولة عن التفكك الأسرى ، وبجعل الشباب فارغا من داخله بعد أن اختفت المثل من أمانيه .

هذا من ناحية القضايا الاجتماعية ، أما تلاوة الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء" للقرآن (ذكريات مطوية .. مجلة الثقافةالعدد 74 نوفمبر 1979) فقد أوجد عنده الرغبة الشـديدة لسـماع القرآن ، أوجدها منذ كان يسمع صوته الخاشع فى مسجد "القاضى" وهو فى ريعان الصبا .. وظلت هذه الرغبة متأصلة فى أعماق نفسه .

وعندما يسمع الشيخ رفعت وهو يرتل سورة الرحمن .. يعرف أن الله موجود وهو الخالق والقادر سبحانه .

وقد اختار البدوى فى هذه القصة شخصية الزوجة من الصعيد ومن قرية "إتليدم" وهى القرية التى نبتت ونشأت وتربت فيها والدته قبـل أن تتزوج وكان والدها عمدة القرية ، وكانت هذه القرية قديما آخر حدود مديرية أسيوط ، أما الآن فهى تتبع محافظة المنيا . "كتاب سيرة محمود البدوى .. على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى .. مكتبة مصر2002".

ويقول فى قصـة الأعـمى "نشرت بمجـلة صوت الإسلام 2581935 وبمجلة الرسالة فى العددين 156و157 فى296و671936 وأعيـد نشــرها بمجموعة "الذئاب الجائعة" عام1944 .. يقول :

"فتاة الريف لاتزال بخلقها البكر ، ولا يزال ضميرها حيا ، لم تخدره بهارج المدينة الكاذبة ، إنها لاتزال ترى الأشياء على حقيقتها ، لا تزال بطبعها البكر ، طاهرة نقية ، قوية الإيمان عفيـفة الإزار .. تسـتهول الجريمة الجنسية ، وتستفظع الخيانة الزوجية ، وترجف حتى من مجرد التفكير فيها ، هكذا شعورها بفطرته ، تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا ، رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها ويستغرق تفكيرها ووجودها ، وتدفعها فطرتها على أن تكون له أبدا".

الرؤية الفلسفية:

لاشىء يمكن أن يقوم وينهض به الفرد وحده ، لأنه وحدة واحدة فى عالم كبير ، ولا يوجد أحد قائم بذاته كالجزيرة ، فالإنسان يعيش بغيره ، جزء من كل يتحرك :

"نسيت سهير نفسها ، ونسيت زوجها .. وأصبح الفرد لا وجود له فى نظرها بعد أن تحرك المجموع ..... أصبح زوجها بكل صفاته الخلقية وشجاعته .. ترسا صغيرا فى آلة كبيرة تتحرك فى عنف وضراوة .. فلم يعد له صوت مع صوت الآلة وضجيجها .. وإن كان له وجود حتمى".

يتحرك الجميع فى المحن ، ويفكر كل منهم فى الاشتراك فى المعركة بعمل إيجابى ، شيئا ذا قيمة يساهم به ويشعر معه بالزهو والانتصار :

" وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسـائية .. ليعملن فى المستشفيات ، ويقمن بإرسال الهدايا والرسائل إلى الجنود فى الجبهة . وكانت سهير وهى فى بيتها تشاركهن هذا العمل بفرح".

أشياء تحدث فى الحـياة لايمـكن تفسـيرها ، فالعلم والحضارة وكل عبقريات البشرية وكل طاقاتها وكل إمكانياتها لايستطيع تفسيرها ، لأنها فوق عقـل البشر ، شىء من النبع الإلهى :

"بلغ القلق مداه عندما أخذ أهلها يسألون عنه صراحة فى التليفون وفى زيارتهم لها .. وفى كل يوم يكون السؤال الذى يمزق أعصابها .. فاضطرت بعد التفكير أن تكذب وتقول لهم بأنها تلقت منه رسالة حدثها فيها عن عمله البطولى فى الحرب .. وكيف كانت فرقته أول فرقة فى الجيش عبرت القناة ورفعت العلم .. وسرى الخبر فى الحى الصغير الذى تعيش فيه".

ثم يورد الراوى الحوار الذى دار بين الزوج بعد عودته من الحرب وزوجته .. فيقول :

"وجلسا يتعشيان .. وكانت تلاحظه بعينيها وتقيسه طولا وعرضا .. وتفكر .. ولما فرغا من الطعام .. قدمت له فنجان القهوة وهى تحدق فى وجهه .. فسألها :
مالك .. لماذا تنظرين الي هكذا .. ؟
تبدو لى ..كأنك لم تحارب .. ليس فى جسمك خدش واحد ..
لقد كانت فرقتى .. أول فرقة عبرت القناة ورفعت العلم ..

وقالت سهير لنفسها أن هذا هو ما قلته للناس فعلا .."

غيرت الحرب نفوس الناس وأظهرت معدنهم النفيس وهم يتنافسون لمساعدة امرأة وحيدة ، ذهب زوجها إلى ميدان القتال :

"أحست بأن الناس ينظرون اليها فى إكبار .. وكل واحد منهم يتمنى أن تكلفه بخدمة ..كانت السعادة تغمرهم إذا ساعدوها فى أبسط الأشياء ".

الإنسان فى حاجة إلى الوحدة ليطلق العنان لأفكاره وعواطفه وأمانيه وأحلامه وما يصوره له الخيال بعد أن تمزقت أعصابه ، وأن فى وجـود آخـرين معه يصيـبه بالضجر :

"وكان بعض من جاراتها يزرنها فى النهار والليل كلما وجدن الفراغ .. ولكنها كانت تفضل أن تقضى وقتها بمفردها .. وكانت هذه العزلة هى أحب الأشياء إلى نفسها ، لأنها تجعلها تفكر فيه وحده ، وتحصر نفسها فى عمله هناك .. وتتصوره وهو فى الخندق .. أو فى العراء .. مقاتلا أو مستريحا .. يفكر فيها ..كما تفكر فيه .."

الزوجة العاقلة تحس فى بيتها بأنها تعيش لغاية وأمل ، فهى تنمى شجرة الحياة وتحملها بالثـمر ، لا أن تعمل بسلبيتها على جفافها وموتها ، ليأتى الولد وترى فيه صورة زوجها إمتداد له وحياة ، ويكربها ويحزنها عدم تحقق الأمل بوجود قطعة منها :

"وكانت تتوق لأن تنجب منه .. ما دامت بعد أن تزوجت قد رضيت بأن تترك الجامعة وتتفرغ لعمل البيت ، بيد أن الولد لم يأت بعد .. وقد يأتى غدا .. ولكنها كانت تتوق إلى وجوده فى أحشائها فى هذه اللحظة لتشعر وهو بعيد عنها بأن قطعة منه فى أعماقها .. تتحرك وتنمو .. وتنتظره كما تنتظر هى .."

حينما ينشغل الإنسـان ويفكر فى شىء معين يشغل به ، يستيقظ فى الليـل على أحـلام ذهبية أو أحـلام مروعة ، ولكن هناك عالم آخر ، عالم يعلو عن فهمنا وإدراكنا وأسراره لاتحيط به عقولنا ولا ندرك منه شيئا :

"ورأت زوجها فى الحلم يخوض معركة ضارية .. وكان فى مقدمة الصفوف مع المشاة .. تقدموا واخترقوا طوابير العدو .. مهللين منتصرين .. وانقلب الجو كله إلى نيران تتأجج ودخان وقصف .

وفى غمار المعركة .. أصيب جندى مصرى .. وأحس به زوجها .. فرجع إليه يحمله وحده .. والرصاص حوله يتساقط ..حمله ومشى به حتى وضعه فى عربة الميدان الطبية .. وفى أثنـاء هـذه الحركة أصيب زوجها برصاصة وسقط . واستيقظت من نومها مذعورة ..

كانت تعرف طباع زوجها ، وهو يفعل مثل هذا وأكثر منه .. ولذلك اشتد بها القلق .. وزاد الحلم بكل ما فيه من بشاعة من أحزانها وتعاستها .. وبكت".

يعيش الأب ليعطى السعادة لأولاده ، ويبذل كل ما فى وسعه من مال وجهد لإسعادهم ، ونتيجة للإشراف الحقيقى للوالدين فى تربية الأبناء واعتناق المثل ، تكون الثمرة التى نبتت فى بيت طيب طيبة :

"وفى اليوم الثالث للعيد .. جاء والدها من "اتليدم" فى قطار الظهر .. سمعت صوته بعد أن فتحت له "الشغالة" الباب فأصلحت من شأنها وجرت إليه فقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها فى البلد .."

فى أيام المحن والإحساس بالألم والمرارة يلجأ الناس إلى الله ، ويستمعون إلى تلاوة القرآن ، ويذهبون إلى المساجد ، وتزداد النفس صفاء وشفافية ، وينـزاح الهم عنهم ، وفى أيام راحتهم ورغدهم ينشغلون بما يجرى على الأرض :

"وسمعت وهى جالسة فى الشرفة ـ تتطلع إلى رمـال الصـحراء والسكون يخيم على المنطقة ـ صوت الشيخ "رفعت" من مسـجل فى الشقة المجاورة ،كان يتلو سورة "الرحمن" وتنبهت "سهير" وأنصـتت مأخوذة .. لقد سمعت الشيخ "رفعت" كثيرا من قبل .. ولكنها لم تسمعه بمثل هذا الصوت الحنون .. أهى حالة نفسية ..؟ وتندت عيناها بالدموع .. أى صوت ؟ إنه كروان يغنى فى الجنة .

ظلت جالسة فى مكانها ساكنة خاشعة .. حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت . وأحست بالحيوية والانتعاش .. وتبدلت تبدلا تاما .. ودخل قلبها الإيمان بالحياة ".

النساء زينة الحياة ، وكل شىء ينسى معهن ، والمرأة المدركة الإدراك الصحيح للحياة ، تحاول بكل وسيلة أن تجـعل بيتها المكان المريح الذى يضم الزوج ، بإدخـال السرور على قلبه لينس ما كابده من شقاء وتعب ، فهو عنـد عودته ويراها فى أبدع زينـة وآنق ملبس ، يحس براحـة لذيذة ، ويشعر بأنه شغل تفكـيرها واحتـل شعورها ، وأن جذوره متأصلة فيها ، فتجعله أكثر إقبالا على الحياة :

"وأعدت مائدة الغداء بعناية فائقة .. أعدت طبق زوجها .. ووضعت أدوات المائدة الخاصة به . وجلست تأكل وكأنه أمامها .. يحـدثها حديثـه المألوف .. وبعد ساعة دخلت الحمام .. وخرجـت معطرة ، محلولة الشعر ، بادية النضـارة .. وجلست فى غرفتها أمام المرآة تتزين وتمشط شعرها . ثم انتقت أجمل ثيابها .. ثوبا مخمليا يبرز تقاطيع جسدها وكل ما فيه من فتنة ..... ثم لبست حذاءها ووقفت أمام المرآة ..... ورأت الثوب المخمـلى قد حدد خطوط جسمها .. الوركين .. والخصر .. وبروز الصدر ."

تشعر المـرأة بإحسـاس باطنى لاتعـرف مصـدره ولا مأتاه ، بتوقع قدوم زوجها الغائب فى كل لحظة ، وحينما تراه ، ترد إليها روحها ، وتخرج سعادتها من أعماق قلبـها ، تعـبر له من أقصر طريق عما تكنه جوارحها ويحـمله قلبها ، ليعرف قيمة حياته ووجوده بجوارها :

"وجلست فى الشرفة تتطلع إلى الطريق ، وفى الليل كانت جالسة فى الصالة نائمة وعلى خديها الدموع ، بعد أن برحها الانتظار الطويل .. وصحت على حركته وهو يفتح الباب .. وجرت إليه وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وضغطت ، وأعدت مائدة العشاء .."

تريد الزوجة وتحلم بأن يكون زوجها شجاعا ، يعبر عن شعورها وعن خلجاتها وما تعجز هى عن فعله ، ولا تغفر له إن كان جبانا :

"وبدت غير منشرحة .. وعلا وجهها الامتعاض ..... فهو لم يحارب كما كانت ترغب ..! وتتمنى .. أين بسالته .. وأين شجاعته ..؟ هل انتقم لأطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبى زعبل وسكان السويس .. والإسماعيلية وبور سعيد .. الآمنين ..؟ هل انتقم لهؤلاء ..؟

وبعد نصف الليل كانت بجواره على السرير .. فى قميص النوم .. نصف يقظة .. وكان هو قد استغرق فى النعاس وانكشف عنه الغطاء .. فأخذت تضمه عليه ، ولامست يدها شيئا غريبا تحت "الفانلة" ورفعت الفانلة وكشفته .. فتبينت جرحا بليغا فى الكتف قد تغطى بالضمادات .. وربط باحكام . وضمته إليها فى عنف .. وجنون .."
====================================

ليست هناك تعليقات: