الجمعة، ٧ ديسمبر ٢٠٠٧

النظرة الفلسفية

الدراسة

الإنسـان لايفكر فى نفسه عنـدما يسعى وراء رزقه لتوفير لقمـة العيش لإسـعاد أسرته ، ولا تمنعه الشدائد والنكبات من السعى الدءوب ، لأنه يعيش لغرض أسمى ، ويضرب الراوى المثل بالصياد الذى خرج وسط النار للنضال فى سبيل حياة اسرته :

"أبحر الزورق فى الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب " وشعبان" لايبـعد فى الليـل .كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن ، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء .. فأرسل الزورق على سننه .

وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس فى المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثيرقبل أن ينتصف الليل .. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وابنائه الصـغار . كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو فى قلب البحر .. انهم امتداد له وحياة .."

تحدث أشياء فى الحيـاة لايمكن تفسيرها ، فهنـاك شىء ما يحركنا ولا نراه ويرسم لنـا خط الحياة :

" أحس أن الشبكة أمسكت بشىء .. فقد اهتزت فى يده بعنف .. وخشى أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته .. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب فى لين وراء السمكة الكبيرة .. التى أحس بها تنتفض فى عنـف وخشى أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها .. تصبح ليلة من ليالى النحس ."

وتظهر براعة وخبرة الصياد فى اختيار المكان وحركة اليد والصبر الطويل حتى تقع الفريسة فى الفخ الذى نصب باحكـام ودقة :

" واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس برجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقى ويسير بحذائه فى هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف .

كان يعرف أن المعركة فى هذا الساحل وأن القتال يدور على اشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التى تلقيها الطائرات وصوت المدافع ".

ويتوجس الإنسان الشر فى كل خطوة ، لأن العدو بيـده السـلاح ومن السهل عليه أن يطلق النار ويقتل ،ٍ فالروح رخيصة عند الأشرار :

" لم تمنعه الحرب من السعى وراء معاشه ، ولكنه كان يخرج فى الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان .."

تهز الانسان الفرحة بعدما يقدر أن القدر سيكافئه لتفانيه فى إسعاد أسرته :

" وفى اللحظة التى أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له فى حياته .. انتابته نشوة عارمة .. وكان لايود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا .. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطىء الشرقى ..كان لايريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة .....

وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التى اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالى الخير .

وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها فى بطن القارب .. إنها ضخمة بشكل مهول ، ومن أكبر الأسماك التى اصطادها فى حياته كصياد ."

المصادفات والمحن هى التى تخـلق الأشخاص وتظهر المعدن النفيس للإنسان ، فالإنسان يعيش بغـيره ، ولا أحـد قائم بذاته :

" سمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص . فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة ، بصر بجندى مصرى من جنود السواحل مشتبك مع دورية اسرائيلية فى قتال رهيب .. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله .

ودفع الصياد الزورق إلى الشاطىء ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندى المصرى وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندى قد جرح جرحا بليغا فى هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته . وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو .."

يقع العبء الأكبر من آثار الحـرب على الطبقات الكادحة من الشعب وهم الذين يتلقون ويلاتها:

" وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذى سينتقل إليه .. وهنا سمع انفجارا رهيبا فى البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا ."

حينما يمد الإنسان يد العون لمحتاج ، يشـعر بالزهو والافتخار ، ويشعر بشىء لذيذ يهز كيانه ، وإنه قد فعل شيئا ذا قيمة مما يجعله أكثر حيوية ونشاطا ، ويكاد يطير من الفرحة لأنه فعل شيئا عظيما :

" وتقدم حتى اقترب من جندى السواحل الجريح .. كان لايزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به فى الليل محاذرا متوقعـا فى كل خطوة أن يقـع فى أيدى الأعـداء الذين انتشروا فى الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه ..... وكلما سار الصياد بالجنـدى خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الإثنان فى أيدى الاعداء .. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا .. وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر ..... كان لايريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته .."

كل مخلوق بشرى فى هذه الحياة ينطوى داخله على جانبـين ، جـانب خـير وجـانب شرير ، وكلاهمـا يمشى فى خطين متوازيين ، فإذا غلب الشر على الخير ظهر الشر ، وإذا غـلب الخـير انطمس الشر ويعود الإنسان إلى طبيعته الخيرة التى فيه ، ولكن إلى حين :

" وطال السير فى الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التى أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى .. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال .. ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق ، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت .. فذلك فناء وسيموتان معا .. أى سلسلة ربطتـه به ، لابد من فكها .. وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة فى صوت خافت .. ثم القى عليه نظرة أخيرة وانطلق فى الرمال ."

يحسب الإنسان أنه بعـد أن يوسوس له الشيـطان ويرتكب الشر ويهرب أن الامر انتهى ، لا ، فإن العـذاب يأتيـه من داخـل نفسه ، لأن الخـير يملأ قلبـه ونفسـه تفيـض بالروح الإنسـانية :

" أحس بأن قدميه تغوصان فى الرمال ومسح عرقه .. ورجع الى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطىء ".

شعر الصـياد بالفرحـة لأنه حـافظ على روحـه الطيـبة ولم تتغـلب عليـه نوازع الشر ، ويريـد أن يشـاركه إنسـان آخـر الفرحـة بالنجـاة ، والإنسـان لايستطيع تعليـل ذلك ولا يعرف له سببا:

" وفى وضح الفجر .. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما .. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى .."
===============================
نشرت القصة فى كتاب " السفينة الذهبية " 1971 لمحمود البدوى
===============================

ليست هناك تعليقات: