الثلاثاء، ٤ ديسمبر ٢٠٠٧

الرؤية الفلسفية فى قصة الحارس

الرؤية الفلسفية:

يقدم الراوى فى هذه القصة ، الصراع الأزلى الموجود فى هذه الحياة منذ بدء الخليقة ، الصراع بين الخير والشر ، فالشر دفين فى النفس منذ عهد قابيل وهابيل ، وسيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته .

ففى الحياة أناس أكثر شرا من الأبالسة وألعن من الشياطين ، فبدلا من أن يجملوا الحياة ويجعلونها أكثر نضارة يتحركون بكل ضراوة ويمزقونها ، وما دام الخير موجودا فالدنيا باقية ، وبالخير نقاوم كل عناصر الشر بكل ما أعطانا الله من قوة حتى نقضى عليه مهما كانت ضراوته .

فالبدوى يصـور لنا النـوازع الخيرة والشريرة فى داخل النفس البشرية ، بين شخصيتين ، شخصية خيرة للضابط المصرى صافى النفس والقلب والذى لم تلوث طباعه وأخلاقه شرور الحياة ، والذى يملك القدرة على السيطرة على أعصابه ، كدلالة طيبة على الطيبة ، والتمسك بالقيم ، وشخصية الأسيرة ، التى تمثل روح الشر الخبيثة التى تجرى فى دمها ، وتمثل الجبروت والإجرام ، والتى جردها المجتمع اليهودى من إنسانيتها ، وسـلب نفسها وقلبها وأعادها إلى وحشيتها الأولى ، وجاءت تلقى قنابل الخراب والدمار من السماء ، لتمزق حياة شعب فى أشد لحظات أمنه ، شعب يحب السلام والحرية ، ولا يعرف روح الشر التى تحركهم .

وقد جعل الراوى بطل قصته بطلا إنسانيا ، وحافظ على روحه الطيبة وسماحته المتأصلة فى داخل نفسه ، ولم يجعله عرضة للأذى ، رغم ما وقع فيه من خطأ .

يقـدم الراوى من خـلال علاقة الحارس بالأسيرة نموذجا للخير المطلق فى الإنسان .. فيقول :

"عاملتها بالحسنى من أول لحظة .. ومنعت عنها سباب النسـاء ، ولعنة جنسها ، وغضب الجموع التى أحاطت بها . فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد .. الموت .. وقد نجيتها ."

"كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه .. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام .."

وحينما قالت له الأسيرة أنها جائعة .. يقول الراوى :

"ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية ، أو فى "ديروط" ..... واشتريت الطعام الذى يكفينا".

"وفى محطة "ديروط" ناولتها زجاجة من العصير ، وكنت أود أن أشرب القهوة .. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة .."

وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف .. كانت خائرة القوى .. أتخاف من المجهول .. بعد أن ضاعت الأحلام .. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة .."

"وأحسست بالقطار وهو يسير .. وملت عليها فوجدت جلستها
غير مريحة فعدلت وضع رجليها ، وكانت مستغرقة فى النوم".

"أدركت بجـلاء ، وأنا أحدق فى هذا الكائن ، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى .. أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى .. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها ، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها .. حولوها إلى شيطانة للدمار".

"كانت أمـامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة .. ولكن مـاذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح".

ويقـدم الراوى فى الفقرات التـالية صـور من روح الشر الخبيثة ، التى تجرى فى دم الأسيرة ، والتى تمثل الجبروت والإجرام .. فيقول :

"وبدا عليها السهوم ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية".

"وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو ، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء . وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها .. كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة .. وغدت سحنتها مخيفة ، ضاعت منها كل علائم الأنثى".

"ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبو زعبل .. وسكان بور سعيد .. والإسماعيلية .. والسويس الآمنين فى بيوتهم ، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل .. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد .. كانوا يعيشون فى سلام للحياة .. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار .. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم ..".

ويبين البدوى الصراع بين الخير والشر إذا اجتمعا فى مكان واحد ، وخوف كل منهما من الآخر ، والعلاقة المتوترة بين الحارس والأسيرة .. فى الفقرات الآتية :

"وكحارس لاتفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر ، وضوء البـطارية التى مـعى ، أدور بعـينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة ".

"وأصبحت مسؤلا عنها وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا . وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين ، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب ، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك .. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا .."

"من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ما تبطن من خفايا نفسها .."

"خفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة .. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة".

"خطر فى ذهنى خاطر .. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز .. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة .. فتشـتها فى غرفة مغلقة .. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب ..... ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ".

"وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا ، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة .. فقد كنت فى أشد حالات التعب والارهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة .. وأحدق بجانب دائما .. وأظل جالسا فى خط مستقيم .. لأنى اذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس ، كان شعورى بالمسؤلية الضخمة مضاعفا .. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته .. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة .. وأتلفت فأراها مكانها .. فأطمئن ..

ولكنى أعود للنوم .. وأحلم .. بأنها نزلت من القطار .. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة ، وحكم على بالسجن ، ويحدث كل هذا سريعا .. ولكن بوضوح .. فى شريط الرؤية الذى يدور .. وصرخت .."

ويرسم البدوى صورة بصريه للأسيرة أثناء قيامه بتفتيشها ، وحالته النفسية أثناءها ، وما صوره لها خيالها وسذاجتها ، من أنها تستطيع أن تسيطر عليه ، وكأن جسدها شفيعا لها للهرب .. ولا يعدو خيالها هذا من أن يكون أوهام تسبح فى عقل مرعوب .. فيقول :

"ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ، وهى تنظر إلى بدلال .. وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها .. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء .. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود ، وكأن يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد .. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها .. ولمست صدرها وفخذيها ، تحـت القميص وفوقه . ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت .. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه ، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل ..

وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى .. فلما رأت جمودى .. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة .."

ولم تيأس الأسيرة فحاولت مرة ثانية ، متعمدة ، واستخدمت ذكاءها وقوة أعصابها لإيقاع الحارس فى الفخ الذى نصبته له .. وقد نسيت أن شرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور .. ويقول الراوى :

"قالت بلهجة حزينة .. لما وجدتنى أرفع رأسى :
ـ أريدأن أذهب الى دورة المياه..

وفتحت باب الديوان ، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى .. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تماما فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام ..

وفتحت لها الباب ودخلت ، وقلت لها بصوت آمر :
-ـ دعى الباب نصف مفتوح ..

فلم ترد .. وتركت الباب نصف مفتوح .. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام ، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها .. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب ..

ووقفت أنضح عرقا .. وربما انتحرت أو القت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى .. وطال مكوثها بالداخل .. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب ، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام ، ثم مضت لا تلوى على شىء ".

ويبين حاجـة النفس البشرية إلى الجـمال ، وبغرس الورود مكان الشوك ، للاستمتاع بالطبيعة ومباهجها، وما تحدثه من أثر فى داخل الإنسان ، والسعى وراء الخير والجمال ، وليس للتخريب والتدمير .. فيقول :

"شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين ، أسرة وديعة مسالمة .. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم"

ولم ينس البـدوى أن يرسم بقلمه صـورة بصرية للأسيرة بعد سقوطها بالمظلة من الطائرة .. فيقول :

"ورجعت إليها انوثتها ، فأخذت تسوى شعرها ، وتصـلح من ردائها العسكرى .. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها ، وعلق بها التراب والطين .. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمهــا من تحـت القمـيص الأخضر متسخا كأن به آثار جرح .."

ويبين البدوى حلاوة الروح وحب الحياة بعد أن يقع الشريرفى الفخ ، ويحس بأن أمامه قوة أكبر منه لا قبل له بردها أو صدها .. فيقول :

"فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل .. ولكنى لم أفقد عقلى .. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه ، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب ، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى ..... كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة .. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء .. وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا".

وقد حافظ البدوى على الروح الطيبة للحارس وسماحـته ، فلم يجعله عرضة للأذى رغم ما وقع فيه من خطأ ، حينما غفلـت عينيه وهربت الأسيرة .. فيقول :

"وجرت واندفعت إلى الحقل ، وغابت عن بصرى ، وأخفاها الحقل والظلام معا .. وصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة ، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه . لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية ، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء .. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها .. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا ، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب .

والمحاكمة العسكرية .. والسجن والعار .. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى .. وأنا أقف على رأس الغيط .. مسمرا ملتاعا .. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لاوجود لهما بالنسبة لى ..

كان معى جهاز إرسال لاسلكى ، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة .. خشية الفضيحة .

ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر .. ودخلت الحقـل اتخطى "الحوض" والمجراة .. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة ..

ولم أوغل كثيرا .. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة .. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن إطلاق النار .. ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها .. وأوثقت يديها من الخلف .. وخرجت بها ."

" وسمعت صفير القطار من بعيد .. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن ".

ليست هناك تعليقات: