الأربعاء، ١٢ ديسمبر ٢٠٠٧

الفصل الثالث : حرب فلسطين سنة 1948

أفرغ محمود البدوى كـل أحاسيسـه ومشـاعره ، وماعـايشـه فى تلك المرحـلة التى مرت بها البلاد ..


ففى هذه القصة ، يبين البدوى الظواهر الخارجية التى أثرت فى نفسه ، اثناء عودته من فلسطين فى القطار، خلال شهر يوليو ، بعد اصابته فى الحرب مع اليهود ، وهو يتصور بشـاعة الحـرب ، وبشاعـة آلات الـدمار ، وبشاعة اليهود واضرابهم ، وبشاعة القتـل والتعذيب ، وبشاعة الاستعمار الغربى فى كل صوره ، وركز فيها على المآسى التى تخلفها الحروب ومصير أسرة فقـدت عائلهـا فى الحـرب ، والإحساس بالقـلق والخوف على مصيرها ، وقد تذهب ضحية لظروف فوق طاقتها وفوق احتمالها ، وتغير مجرى حياتها ، وتؤدى بها إلى السقوط .

الدراسة :

قدم لنا محمود البدوى فى هذه القصة ، أحداث وأشياء أصبحت فى ذاكرة التاريخ ولكنها ستظل خالدة فى قصصه . وستظل سجلا حافلا لحركة المجتمع فى فترة تاريخية معينة . فمنذ بداية القصة .. يقول :
"جلست فى القطار السريع العائد من فلسطين ، مرسلا البصر عبر النافذة إلى الصحراء والتلال والكثبان الرملية التى لايحدها النظر .. وكنت قد خرجت لتوى من المستشفى العسكرى بعد إصابة بالغة فى جبهة القتال .. ومنحت إجازة طويلة أسترد خلالها عافيتى."

حينما يصاب الانسان بالألم والمرارة ويدركه اليأس ، يصاب بالكآبة ويجلس صامتا فى ذهول ، غافلا عن كل ما حوله ..

ويقول :
وجلست منفردا منـزويا فى ركن من العربة ، بعيدا عمن حولى من الركاب دائرا حول نفسى كالقوقعة ..

ثم يوضح الراوى الأهوال والمآسى التى صادفت الجنود فى ميدان القتال ، والأثر الذى تركته فى النفوس ، ويهدف إلى نقد أسلوب الحكام ومن بيدهم الأمر والذين يستهينون بأرواح الجنـود ولم يتخـذوا العـدة لمواجهة العدو ، مما أصاب النفوس اليأس .. فيقول:

" وكنت أحمل رسالة عزيزة وضعتها فى جيب سترتى ، رسالة من صديقى الضابط الشهيد محى الدين .. الذى كان يحارب معى فى نفس الجبهة .. وكان قد كتبها لوالدته قبل أن يخـوض المعركة .. يستودعها ابنه الصغير وزوجته التى لم تستمتع بعد بالحياة .. وكان يتوقع الموت .. فقد كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحـة وأشـدها فتكا بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتال الأبطال ."

ويبين تأثير الصحراء على النفس وانطلاقها من عقالها للتأمل فى الكون والحياة .. فيقول :

" وكانت صورة المعارك الدامية قد طافت بذهنى وأنا أنظر عبر السهول الفسيحة الممتدة إلى ما لا نهاية .. والقطار ينهب الأرض نهبا.."

ويتطرق الراوى إلى أن الناس يتصارعون على أتفه الأشياء فى الحياة ، وكأنه يريد أن يقول إن الحياة ما كانت قاسية مطلقـا لو أخذناها كـما تجىء ، لو ألقينا أنفسنا فى غمارها كما هى .. ويقول :

" وكنا فى يوليو والجو خانقا .. والركاب المدنيون الجالسون معى فى نفس الديوان .. يلعنون مصلحة السكك الحديدية لأنها رفعت المراوح الكهربائية التى فى القطار .. ويسبون كل شىء .. وكنت أسخر من هذه الرفاهية .. فلم أكن أحس بشىء ذا بال .. فقد تعودنا على الخشونة بكل ضروبها .. فلم يكن يرهقنى أن لا أجد مروحة فى عربة .. وكنت أسخر من هؤلاء الركاب .. وأغتاظ من تفاهة تفكيرهم .."

وينقد الراوى الواقع والمجتمع ، لما لمسه مـن مشاهد وأحداث ، كشفت عن سلوك وأخلاقيات بعض الناس ، أوجدها الاحتلال وتشربت بها النفوس المريضة .. فيقول:
" وزادنى غيظا أن بعضهم لم يكن يحس بشىء مما نحن فيه من هول .. لم يكن يدرى أن هناك حربا فى فلسطين دائرة على أشدها .. وعندما خرجت من نطاق المحطة وهبطت إلى المدينة .. مدينة القاهرة فى الليل .. رأيت الأنوار والأضواء .. والملاهى والمواخير .. والمراقص الدائرة ، وازداد حنقى فقد كنا نقاتل فى جبهتين منفصلتين بكليتنا عن الوطن الذى ندافع عنه." وعندما ذهب الى بيت صاحبه وجلس فى الصالون .. يقول "وسمعت وأنا جالس صوت الراديو يردد بعض الأغانى الشائعة .. ما هذا .. أيجهلون كل شىء ؟!"

ويقول بعد أن دخلت علي السيدة والدة محى الدين بردائها الأسـمر السـابغ وظـهر على وجهها البشر ، وأخذت ترحب به مسرورة :

" لم أقل شيئا .. واستمرت هى ترحب بى مسرورة .. وأدركت بعد دقيقة واحدة من مجلسى معها أنها تجهل أن ولدها مات .. وكانت متلهفة على سماع أخباره .. وأسقط فى يدى ..كيف أحدثها بخبره .. ولو حدثتها وهى فى غمرة نشوتها لقتلتها من هول الصدمة .. فكتمت الخبر .. وأخذت أروى لها مختلف الأحاديث عنه ."

وهنا يبين الراوى أن أقل ما تحتاجه الأسرة التى غاب عنـها عائلهـا ، من زائريها ، تهـلل السريرة وانشراح الصـدر ، وعلى الإنسـان أن يعيش ليعطى السـعادة للآخرين .. فيقول :

" وذاب قلبى حسرات .. وتذكرت كل ما كنت أحمله فى جيوبى من هدايا لأسرتى .. وأخرجتها وقدمتها لوالدة محى الدين على أنها مرسلة من ابنها .. لها ولزوجته ..

وجرت بالهدايا إلى الزوجة فى الداخـل ، وهى تصيـح ، بصوت طروب : "شوفى يا اعتـدال .. إيه اللى باعتولك جوزك .."

وسمعت صوتا رقيقا ناعما يقول من فرجة الباب : "مرسى .. مرسى خالص .."

وأخذت أنظر إلى هؤلاء الناس المتلهفين على أخباره ، والمتوقعين قدومه فى كل لحظة ، الذين يتصورون كل شىء إلا أنه مات وراقد هناك تحت الثرى .."

وفى هـذا المشهد الذى يرويه لنا ، نحس أن بصيرته التقطت صورة واضحة لما حوله بكل تفاصيلها ،كأنها عدسة قوية ، وطبعها وأبرزها أمامنا ، وكأنه يريد أن يقول إن هذه الأسرة تناديه ، بألا يتأخر عنها ، فهو العوض والبديل عن الغائب ، إلى أن يعود ، لأنهم فى حاجة إليه .. فيقول:
" وعندمـا ودعت الوالدة .. وحملت ابن محى الدين وقبلته وهبطت
سلم البيت .. وخرجت إلى الشـارع .. كن واقفـات فى الشـرفة لوداعى ."

وهنـا تعجـب لإنسـان طغـت على نفسه روح إنسانية ، رفعته عن الشهوات الشخصية والأنانية ، فى دنيا كلها شياطين .. فالوطن فى حاجة إلى مثل هؤلاء .. فيقول :

" ولم تبرح صورة محى الدين وصورة أسرته ذهنى بعد ذلك أبدا .. كانت تشغل تفكيرى كله .. وقررت أن أفعل شيئا سريعا حاسما لأريح أعصابى .. قررت أن أعود إلى جبهة القتال لأنتقم له ..

وعدت إلى فلسطين .. واشتركت فى المعركة الكبرى .. وقتلت كثيرا من اليهود .. وشعرت بنشوة النصر ولذة الانتقام .. وفى حمى المعركة أصبت بشظية فغبت عن الوجود وحملت وأنا فى الغيبوبة إلى المستشفى .."

وتلعب الصدفة دورا هاما فى حياة الإنسان ، وهى ليست صدفة كالصدف التى تحدث فى الحياة اليومية ، هى صدفة فوق مستوى العقل البشرى ، وهى كالقـدر نوع من النبع الإلهى ، رسمت لهما الطريق وجمعت بينهما برباط خفى .. ويقول :
" وعندما فتحت عينى وعـدت إلى رشـدى ، وجدت نفسى فى مستشفى الحلمية العسكرى .. وبجوارى تقف سيدة شابة فى لباس الممرضات .. وكان وجهها كالبدر ، ونظرت اليها طويلا وعرفتها .. كانت زوجة محيى الدين .."

وفى نهاية القصة يقول الراوى :
" اننى أعيش الآن فى منـزل محيى الدين .. مع والدته الكريمة ، وابنه الصغير ، وزوجته التى أصبحت زوجتى ، وعزيزة على منذ تلك اللحظة الخالدة فى تاريخ الإنسان ، وأشعر أنهم لم يفقدوا شيئا .. كما أشعر أننى أديت الرسالة التى حملتها معى من الميدان ."

هذه القصة محاولة من الأديب لكى نفطن إلى ماتؤدى اليه الحروب من ترمـل للنساء وتيتم للأطفال وتصيب الجميع بالخراب والدمار والفساد والتمزق ، وحزن على شباب ذهب وذبل فى عمر الزهور ، وعلى سيدة ترملت وهى فى أول عهدها بالحياة ، وعلى آمالها التى ذوت ، وعـلى حزنها فى هـذه السن .

وعلى الإنسان ألا يعبأ بمصيره الفردى فى سبيل الحفاظ على أسرة ذهب عائلها للدفاع عن وطنه وترابه وأرضه ، لرد الدين الذى طوق به أعناقنا وعلينا أن نحافظ عليها ونرعاها ، وأن نحميها من شر الإنسان ، ليظل سقف البيت مرفوعا.

====================================

ليست هناك تعليقات: