الأربعاء، ٥ ديسمبر ٢٠٠٧

النظرة الفلسفية

النظرة الفلسفية

بدأ الراوى هـذه القصـة بالتركيز على شخصـية الخفير ، وأبرز جميع صفاته وطباعه ليكون القارىء ملما بهذه الشخصية قبل الدخول فى الحدث .. فيقول :

" كان له فى شبابه تاريخ حافل بالتصدى لرجال الليل وقطاع الطرق ، فلما طعن فى السن وترك المزارع والوابورات إلى المحطات .. عاش من وقتها على صيته القديم فلم يطلق رصاصة واحدة طوال حياته فى السكة الحديد ..

وكان يؤدى عمله اليومى بأمانة عديمة النظير .. فيحب المحطة وناظرها وعمالها ودخان قاطراتها وكل ما فيها من جماد كأن كل هذه الأشياء قطعة من جسمه .."

ثم يرسم صورا حية من الحياة فى الصعيد صباح يوم 5يونيـة ، ويدعمها بصـور بصـرية عن الطبيـعة ويضيـف عليها انعكاساتها فى نفس الانسان .. فيقول :

" كانت الشمس قد ارتفعت وضوؤها يبهر الأبصار .. وغمرت صفرتها المحطة وكل ما يحيط بها فبدت المزارع والمياه والبساتين وحتى الرمال التى تبدو من بعيد فى الجبل ، مكتسية بلون الأرجوان ..

وأخذت الريح تهب لينة مداعبة اوراق الشجر .. وصفحة المياه وأعشاش الطيور .. وبدت السيارات الكبيرة المحملة بالبضائع والركاب تثير الغبار على الجسر ..

وفاض سيل الحياة المتدفق فى دائرة قطرها ثلاثة أميال على الأقل فدارت وابورات الطحين والسواقى والطنابير .. وأخذ الفلاحون يعزقون الأرض ويفلحونها .. ويسوقون المواشى إلى مرابطها فى أطراف الحقول ..

ولاحت أشرعة المراكب من بعيد فى وهج الشمس وهى تتحـرك ببـطء فى النيـل فقـد كانت الريح لينـة والقلوع لاتشيل .. "

وفى لحظة يتغير كل شىء فجأة ويخيم الرعب ويفسد جو الحيـاة ، وينقلب النعيم إلى جحيم عندما يضع الشر أقدامه فى المكان الآمن .. فيقول :

" وأزت فجأة طائرات فى الجو .. ثلاث طائرات صغيرة كالنسـور مرت فى سماء المحطة وهى منطلقة بأقصى سرعتها .. وتطلع إليها العمال .. وأوقف الفلاحون حركة المذارى فى أجران القمح .. وحولوا وجوههم عنها فقد أخذ الهواء يعصف ويدوم ويطير التبن فى عيونهم من فعل الضغط ..

وحدق "سليمان" الخفير .. فيها طويلا حتى غـابت عن بصـره واحتوتها السماء .. وبدت بعدها السماء صافية وفى زرقة ماء البحر .

وتصور من فى المحطة أنها طائرات مصرية فى طريقها إلى أسوان .. ولكنهم عرفوا بعد قليل من الاذاعة .. أن اسرائيل هجمت فى جبهة سيناء والطائرات مغيرة .. ووجم "سليمان" قليلا لما سمع الخبر ، ولكن ما عتم أن صفت نفسـه ولانت ملامـح وجهـه .. فقـد كان على يقـين من النصر .."

والنـاس لا تنسى الشجاعة أبدا ولا موقف الأبطال المصريين فى مقاومة الشر بكل ما أعطاهم الله من قوة :

" واخذ يسترجع فى ذاكرته كل ما سمعه ورآه .. من مواقف البطولة التى وقفها المصريون وهم يقاتلون الأعداء فى الزمن القريب والبعيد ..

ورجع إلى ميدان المعركة وكان عالم الرؤية يبسط أمامه المواقع فى الجبهة .. تذكر هذا كله .. فرأى الجيش المصـرى بكل فرقه بمشـاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم صوب اسرائيل لسحقها .

وظلت الصورة فى رأسه مبهجة تهز المشاعر "

ويرسم صورة الفلاح المصرى الجبار الذى كافح الاستبداد والظلم والجبروت وذاق مرارة الحرمان وما حنى رأسه لمخلوق والذى يتحرك ويلتحم فى المحن مع الآخرين بقلب واحد وعزيمة صلبة .. فيقول :

" سمع همسا فى العصر يدور .. يدورعلى ألسنة الناس .. فارتعش بدنه .. ولكن شجاعته لم تبارحه ويقينه من النصر لم يتزعزع .. فلم يصدق الخبر وغضب غضبا شديدا وكاد يحطم كل متحدث به حتى ناظر المحطة نفسه .....

وخرج ناظر المحطة من مكتبه .. منفعلا يغلبه التأثر وقد أحس بمثل السكين تغوص فى قلبه .. وقال بصوت يرتعش من الغضب .. اتهزمنا اسرائيل .. يا شيخ "سليمان" ؟!.. يا للعـار .. نتراجع ياللعار .. فلنقاتل حتى الموت .. لنعيش كراما .."

ويتطرق الراوى إلى الشخصيات القوية التى نشـأت وتربت فى البيئة الصعيدية جنوب وادى النيل التى ورثت الشجاعة وتمتلىء بالمروءة والشهامة .. فيقول :

" وتجهم "سليمان" .. وأخذ يهدىء من روع الناظر .. ويعده بتحول الحال .. وظلت الأفكار تلاحقه .. أيذهب هو الى الجبهة .. إن ولديه حسن .. وعبد الرحيم .. هناك .. أيذهب هو أيضا ؟ .. إن زوجته قادرة على رعاية الأسرة فى غيابه ولكنهم لايقبلون تطوعه .. فهو شيخ قارب على الستين .. يكفى ولداه .. وقد يقتلان ولكن قبل أن يقتل أى واحد منهما سيقتل عشرة من الصهيونيين على الأقل .. ويكفيه هذا فخرا .. وسيكون النصر .. والشجاعة توحى بالإيمان والأمل .."

وحينما يستقر الإنسان على رأى ويقوم بتنفيذه تسرى
فى جسمه قوة لم يعهدها من قبل .. وعن ذلك يقول:

" سمع "سليمان" أن طيارا هبط بالمظلة بعد أن أصيبت طائرته قريبا من قرية تل العمارنة .. واختفى فى الحقول .. وأخذ البوليس يطارده .. وانتصف الليل ولم يعثروا له على أثر .. وازداد القلق والتوتر واشتعل رأس "سليمان".. وأخذ يرسم فى رأسه الدائرة التى يمكن أن يختفى فيها هذا الطيار .. بعد أن طارده البوليس بخيله ورجاله .. ووضحت الصورة فى ذهنه .. "

ولا يستطيع الإنسان أن ينسى ماضيه ، وعندما تتاح له الفرصة وتكون فى متناول يده ، يتشبث بها ولا يتركها تفلت منه ، لأنه يود أن يعيد مجده الذى ولى ويختبر فراسته وشجاعته .. فيقول الراوى :

" اعتقد أن القدر وضع فى طريقه حدثا جللا بعد كل هذه السنـين الطويلات المدد ليمتحن قدرته على القتال "

ويوجه الإنسان نفسه إلى أمر واحد تتجمع فيه قوته وحيويتـه ، ويشعر بقوة الشـباب وجبروته ، وبالدم يسـرى فى ألياف جسمه .. فيقول الراوى :

" وبارح سليمان المحطة فى خفة الثعلب وتسلق شجرة ملتفة داخل بستان الشيخ عرفان .. وكمن فيها .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه .

وفى حوالى الساعة الرابعة صباحا سمع حفيفا واهنا بين أوراق الشجر .. فتسمع ومد بصره .. فرأى شبحا يتحرك بحذر ناحية الشرق .. وتوقف الشبح ليأمن طريقه قبل التحرك .. كان الخوف يزيده يقظة فى كل خطوة .. ورأى "سليمان" عينيه تتوهجان فى الظلمة كما تتوهج عينا الثعبان وهو خارج من جحره .. ومال برأسه إلى اليمين مادا عنقه كما يفعل الثعبان تماما ..

وأدرك "سليمان "دقة الموقف وخطورته .. لو تنبه الطيار المذعور إلى وجوده .. إن الذعر سيجعله يبادر بالحركة .. "

يشعر الإنسان بقوة عظيمة تحمـله على المضـى فى طريقه لاجتثاث الشر من جذوره .. فيقول :

" لقد حانت الساعة ليهاجمه .. وإلا فلتت منه الفرصة إلى الأبد .. وانتظر "سليمان" لحظات حابسا أنفاسه .. ثم هبط إلى الأرض .. يزحف على بطنه .. من جانب وجاعلا ظهر الطيار إليه .. حتى أحس بانفاسه وظل ملتصقا بالأرض يشتم ترابها ويده على زناد البندقية ..

وأطلق الطيار أولا .. أحس وهو مرعوب بأن شيئا خطرا وراءه فاستدار سريعا وأطلق .. ثم دوى الرصاص .. من الجانبين .. بعنف فمزق سكون الليل .. ونبحت الكلاب بشدة .. وجرى الناس على صوت النار .. ووجدوا على بصيص النور الذى لاح مع نور الفجر "سليمان" يستدير لمواجهتهم والدم ينـزف من كتفه ..

وتحت شجرة ضخمة .. يرقد الطيار الصهيونى ساكنا وقد مزق جسمه الرصاص .."
=================================

ليست هناك تعليقات: