الاثنين، ١٠ ديسمبر ٢٠٠٧

أحداث حرب 1956 فى مدن القنال

مدن القنال

انطلقت الصواريخ وتأججت النيران .. وفتحت المدافع أفواهها .. وصفر الرصاص .. وأبرقت الشهب .. واهتزت الأرض .. وأرعدت السماء .. وخيل للناس أن قذائف المدافع المضادة تشق السحاب ، وأن الأرض تخرج السنة الجحيم .

كانت المدينة الباسلة تقاوم الغزو بقلب واحد ، الرجـال والنساء وحتى الأطفال ، كانوا يقاتلون ببسالة من شبر إلى شبر ، يأتيها الضرب شديدا ومروعا من ناحية البحر ، والقنابل تسقط عليـهم من السماء ، والنيران تندلع حولهم ولم يتخاذل منهم أحد ، ولم يتراجع ، وأعطى السلاح للناس دون شرط .

وظلت البيوت صـامدة ومشرقة فى وهج الشمس ، ثم أخذت كرات من اللهب تسقط عليها ، وأخذت القذائف تدكها ، وبين الأطلال والرماد وقطع الأثاث المتناثرة كان الأهالى يتجمعون من جديد ويقيمون المتاريس ، ويطلقون النيران ، والجموع تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .

واشتدت المعركة وانقلبت إلى جحيم ، فأخذ الناس يخرجون النساء والأطفال من المدينة .

يقول الراوى فى قصة " عند البحيرة "

" ولكن زبيدة بقيت فى بيتها ، ومن الصباح البـاكر وهى تسمع الضرب يأتى من ناحية البحر وكان شديدا مروعا ، ولكنها كانت مطمئنة ، وتقول لكل من تراه سنسحق الأنذال ، وكان زوجها قد حمل سلاحه وذهب إلى مطار " الجميل " .. " وفى الصباح علمت أن المعركة انتقلت إلى " بور فؤاد " وزوجها فى قلب الجبهة يقاتل مع الوحدات المدرعة ..... وكانت هناك طابية على الساحل ، ترسل بين الفينة والفينة قذيفة واحدة ، ولكنها تدك الجبال وتجعل البحر يتحول إلى طوفان ..... وكانت تعرف أنه مادامت هذه الطابية تعمل ، فلن يجرؤ أسطول الأعداء على الاقتراب من الشاطىء ، ولكن بعد غروب الشمس ، سكتت " الطابية "

وكانت النساء اللائى ذهب أزواجهن للقتال مع الوحدات المدرعة يعرفن أنهم سيعودون إليهن حاملين أنباء النصر .

ويقول الراوى الذى عاش فى قلب المعركة تحت النيران والقنابل ورصاص البنادق فى قصة " تحت النيران " :

" فى كل مرة كنت أتوقع أن أقتـل ولكننى عشت وخرجت من المعركة بقلب جديد وشعور جديد .. وأدركت عن بصيرة أن النصر لايأتى من البندقية التى نمسكها وإنما من اليد التى تحرك البندقية . كما أدركت أن المستميت لايموت وأن الظلام والقنابل لاتميت ولا تخيف مادام الإنسان قد قرر أن يعيش ويحيا "

ويقص الراوى فى قصة "رصاصة " بطولة أحد الجنود فى خليج السويس حينما اقتربت طرادة الاعداء من الخليج وأخذت تقذفه بالنار :

" أدار وجهه لرفقائه ، وقال لهم بهدوء ، سأغرقها ، وظل يقاتل والطائرات تحلق فوقه كالنحل ، ولما عجزت الطائرات عن إسكات مدفعه ، صبت عليه النار وحصرته فى دائرة مشتعلة ، لتقضى عليه القضاء الحتـم ، ولكنه لم يعبـأ بهذا كـله وظل يقاتل ويرمى السفينة باللهب وأصابته شظية فى بطنه ، وأخرى طيرت يده ، ومع هذا لم يسكت مدفعه ، كان يستعمل كل جوارحه الباقية ويحرك المدفع ويده تقطر بالدم حتى أغرق السفينة .

وفى قصة "الجريح" يحكى عن بطولة خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى ويبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات ..

ويقول :
"عندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر ، لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة ..... ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها ..كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ، ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الاعداء .. ألتى تلقى القنابل فى كل مكان ..... وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الاعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية ..... وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين ، وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية .

وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة ، حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها .. وأخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود .

وعندما فتح عينيه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه ، وزحف ببطء ومشقة على الرمال .. وبعد ثلاثين مترا وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار .....

وسمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص نبهه .

وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتعل الكوخ .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر .. وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود " .

وتطورت الأحوال وعلم الأهالى أن اسطول الأعداء يقترب ، فخرج النساء والأطفال والشيوخ من المدينة ليقيموا مع أهاليهم فى الريف ، واشتد الضرب ومادت المنازل فخرجت النساء يجرين بملابس البيت وأخريات أذهلهن الموقف حتى عن أخذ النقود ومنهن من خرجت تجرى ومتاعها على رأسها ، واتجه جمع غفير من الناس إلى " بحـيرة المنـزلة" وجلسوا هناك صامتين ، وحـولهم المدافـع تقصف والنيران تتأجج والاعداء يرمون القنابل على البحيرة ليغرقوا الزوارق بمن فيها ، وكلما شاهدوا قاربا يقترب من البر ، اندفعوا نحـوه بسرعة وأخذوه وأبحروا .

واشتد قصف المدافـع ، وأسقطت الطائرات حمولتها ، وزلزلت الأرض وانهارت المنازل ، وتأججت النيران ، وحجب الغبار والسواد الأبصار ، والرصاص والقذائف واللهب يتساقط كالمطر ، واحتل الإنجليز المدينة وحاصروها ، وقطعوا الماء عنها ، واستمر القتال على حدود المدينة .

ليست هناك تعليقات: