الأربعاء، ١٢ ديسمبر ٢٠٠٧

قصة الشعلة

الشــــعـلة

قصة محمود البدوى

تقع حانة منيرفا فى الشارع الرئيسى فى حى الملاهى والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام فى الخارج .. فقد كانت مشهورة بالكفتة الرومانى والمكرونة الإيطالى ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأنى أصبحت بصورة لاتقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفى بالعمل الروتينى الممل فى الصباح .. دون أن أحرك مشاعرى أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين فى عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم فى الطعام والشراب .. والعمل الشاق فى الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص فى الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة فى المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعى الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإنى قد وجدت نفسى بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التى تتردد على المشرب .

كنت أجد على " البار " رجلا ضخما عظيم الكرش .. كان السيد " عبد الغفار " يدخل فى الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب .. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الاحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب فى الليلة الواحدة .. " دنا " ممتلىء الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتى ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب .. ولما يجدنى لا أشرب يقول للساقى :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق فى وجهى بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذى يصلى طول النهار .. ويذهب فى الليل إلى وجه البركة .. !

وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا .. ولو زجاجة صودا ..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن " شوبا " من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع فى يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن فى اغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى فى الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين .

وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت فى شارع الفلكى .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى فى تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته " عبد الغفار " .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن فى عمارة للأوقاف فى هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة .. طارت الخمر من رأسه .. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت .. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح فى سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش فى جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان .

***
وفى خلال هذا الركود والملل والفراغ الذى كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ " روميل " يزحف فى الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون فى حاناتها ..

ولكن الخواجه " إيناس " منعهم من دخول " منيرفا " .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل .

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفى الوقت الذى كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملاهى .. ويشتبكون فى عراك دموى مع السكان الآمنين فى قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين فى " منيرفا " نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. فى كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة " منيرفا " بالمكان الذى يجلس فيه النساء . ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..

وفى هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات " عبد الغفار " ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لاتعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية فى شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت فى شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة .. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت فى الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو فى حالة اعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان " عبد الغفار " ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندى مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكرى ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة ..
ـ حرام ..

وقلت للناس انى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسى . ومر تاكسى نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت فى مساء اليوم التالى أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبى لأعاونه فى هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبى دى فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا فى الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة فى المكان ..

***

وفى الساعة التاسعة من مساء اليوم التالى .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من " بار " .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة انها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لايدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهى عن اليد التى كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحنى علىّ وهو مخمور وحسبنى لم أسمعه فى المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..

قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة :
ـ اعطنى .. شلنا ..
ـ ليس معى نقود ..

قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..

وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام .

وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله .

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..

وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه فى رقة :
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .

***

وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هنـاك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلىّ أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .

وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت ..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة ..
=================================
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 1/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة محمود البدوى " الأعرج فى الميناء" 1958
=================================

ليست هناك تعليقات: