الجمعة، ٧ ديسمبر ٢٠٠٧

الفصل السادس ـ حرب 5 يونية 1967

كانت لطمـتى أشــد اللطـمـات ، لأنـنى كنت أكـثر المصـريين حماســة وضـراوة لسـحق اليـهود ، فإذا بى أتلـقى القــارعة ، ونظـرات السـخرية ، والاحتـقار من الجميـع


حرب 5 يونيه 1967

امتلأت الشوارع الرئيسية والطرق الجانبية فى اليوم الأول من يونية باللافتـات من كل الشركات الكبرى والصغرى والمحلات والدكاكين وتحمـل جميعها العناوين المثيرة وتتحدث عن المعركة والهزيمة الساحقة لإسرائيل .

وفعلت هذه اللافتات فعل السحر فى نفوس الناس لشعورها الوطنى المتقد حماسة لسحق إسرائيل وإبادتها من الوجود ، وأدخلت البهجـة والسرور فى القلوب ، وكل إنسان يود أن يصنع لنفسه لافتة ويكتب حروفها بدمه ويعلقها على صدره ويمشى بها فى كل الميادين والشوارع والأزقة والحوارى .

وهبت العاصفة بعد ذلك بخمسة أيام ، هبت فى اليوم الخامس من يونية سنة 1967.

وتحركت الحرب بسرعة رهيبة ، وعصف القلق برؤوس المصـريين العاملين فى سيناء ، فى صحرائها ومدنها ، وخرجوا من بيوتهم والفـزع يحطم اعصابهم ويشل تفكيرهم مما سيحدث من جحيم الحرب وويلاتهـا من الخراب والدمار ومن كل ما سيحل بالانسان ، بعد ما علموا أن العدو على مقربة من مدينة العريش .

طار الأهـالى على وجوههم فى الصحراء ، خوفا ورعبا وفزعا بلا طعـام وبلا ماء ، والقنـابل تتناثر حـولهم ، واستغل أصـحاب النفـوس الوضيعة الموقـف ، وحـاجة النـاس إلى ركوب العربات وتقـاضوا منهم أجرا باهظا وكأنهم سينقلونهم إلى أوربا ، قبل احتـلال مدينة العريش ، ونزل الأعداء من البحر وبالمظلات فى قلب سيناء ، ودمرت القنـابل الساقطة من طائراتهم الطرق لتعوق المدرعات المصرية من الانسـحاب ، وامتلأت الأرض والسماء بالنار والدخان .

وأخذت الطائرات المغيرة تقـذف الأهـالى الهاربين من الجحـيم بالنيران ، وقتل منهم من قتل ، ومن ظل على قيد الحياة أسر .

ودفعـت غريزة البقـاء الهائمـين على وجوههم فى الصـحراء تحت حرارة الشمس ولهيبها ، وفوق الرمال الساخنة وأحشاؤهم تتمزق من الجوع والعطش ، إلى الحركة والتخفى فى الكثبان الرملية بعيدا عن أعين الأعداء ، وهم فى طريقهم إلى القنال .

وأظهرت الحرب أصحاب النفوس التى حولتهم إلى شياطين وأماتت كل العواطف الخيرة التى فيهم ، كما أظهرت المعدن النفيس للمصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب والذى لم تلوث طباعه الحروب والنكبات .

***

ظهرت الطائرات فى السماء ، واطلقت القذائف المضادة ، ودوت صفارات الانذار ، وأذاع الراديو خبر هجوم إسرائيل على جبهة سيناء.

كان الأهالى على ثقة ويقين من النصر ، وأن الجيش المصرى بكل فرقه مشاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم فى اتجاه إسرائيل لسحقها.

وفى الليل هبت العاصفة وهى تحمل غبار الهزيمة ، وتمزقت نفوس المصريين فى الداخـل والخارج وضاعت الأمانى من النفوس والأحـلام من الرؤوس .

يقول بطل قصـة " الشـبابيك "

" منذ تسع سنوات كنت فى ألمانيا الغربية ، أعمل فى شركة تصنع وتبيع السيارات .. شركة كبيرة ولها فروع فى جميع أنحـاء العـالم .. وكنت فى رغد من العيش ، واستقر بى المقام ، وكانت الأيـام جميـلة .. كأنها أحلام .. ثم حدثت هزيمة 1967 ، وأحس جميع المصريين فى ألمانيا بلطمة ، وكانت لطمتى أشد اللطمات . لأننى كنت أكثر المصريين حماسـة وضراوة لسحق اليهود ، فـإذا بى أتلقى القارعـة ، ونظرات السخرية ، والاحتقار من الجميع ..

وفى ليلة ليلاء ، قررت أن أعود لبـلدى ، وأواجه العاصفة ككل مصرى يعيش على أرضها."

ويقول الراوى فى قصـة "بائع العطور "

" وأحس " إسماعيل " لوطنيته المتأصلة بطعنة دامية .. كأنه هو السبب فى هذه الهزيمة .. تغير حـاله وشحب لونه .. ثم أصيب بشىء أشبه بالشلل وأصبح يعوقه عن الخطو المتماسك .. وأصبح نصف مشلول .. يتحرك بعكاز يعتمد عليه فى خطوه .

وفى غمرة الحـزن والضـياع والتمزق سـار العمل فى الدواوين والمصالح والشركات فى جمود ورتابة ..

وكان الموظفون يبحثون عن شىء فقدوه ولا يعرفونه .. ولا يستطيعون الوصول إليه .

وكان " توفــيق بيه " مـدير الشركة التى يعمـــل فيـها " إسماعيل " أكثر الناس إحساسا بما وصل إليه الحال بعد الهزيمة ، من تغير فى نفوس موظفيه ، وشعور بالمرارة .. فأخذهم باللين ، وبث فيهم روح الأمل ، ليستردوا أرواحهم ويمحون العار .. وكان لهم قدوة فى كل عمل ، وأمـام كل خطوة .. فكـان دائم السؤال عن مشـاكلهم وأحوالهم المعيشية ، وعن أسرهم .. فإذا مرض أحدهم زاره فى بيته .. وإذا كان للموظف ابن فى الحرب سأل عن أخباره .. وإذا كان الموظف لا يستطيع بوسائله الاتصال بابنه .. سأل هو بنفسه عنه ، وطمأنه عليه .. وكان سروره بعد الإطمئنان أكثر من سرور أسرته .. " .

ويستطرد الراوى ويقول عن " إسماعيل " وعن وطنيته المتأصلة وصفاء نفسه من أدران الحياة :

" تأثره بالحرب والهزيمة جعلتاه يفكر دوما فى الحرب .. كان دائما يفكر فى الحرب ، وما الذى يعمله لها .. وليس عنده ولد فى سن الجندية يدافع عن وطنه .. ويرضى الوطنية المشتعلة فى قلبه .. ما الذى يعمله ، وهو نصف مشلول ، ليشترك مع المواطنين فى الدفاع عن الوطن ؟!

فكر فى جرحى الحرب ، ورأى أن يزورهم فى المستشفيات ويوزع عليهم زجاجات العطر كهدية .. يعطيهم أحسن ما عنده .. ويبدأ بهذه الزيارات فى يوم الاثنين من كل اسبوع .. وكان يتبارك بهذا اليوم ، لأنه يوم مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .. "

وجاءنا الراوى بمثال يرويه لنا يظهرفيه شجاعة الإنسان المصرى ، الذى أظهرت الحرب ووقوعه فى الأسر ، معدنه النفيس ، لوطنيته المتأصلة ، وهو يتعرض لموقف ويتصرف وهو واقع تحـت تأثيره وإن كان يعرف أنه سيموت ، ففى قصة" السباك " .. يقول الراوى :

" ولما اشتعلت نيران الحرب السريعة فى سنة 1967 .. كان محمد السباك فى قلب سيناء .. وأسر مع من أسر ..... ولما علم الإسرائيليون من بعض الأسرى بخصائص محمد السباك .. فى السباكة والميكانيكا .. وكل الأشياء التى لها آلات وعدد .. سحبوه ليصلح لهم سريعا ما تعطل من سياراتهم ودباباتهم التى جروها وراء الخطوط لتعود إلى المعركة من جديد ..... وعذبوه بدنيا ونفسيا .. وحاولوا معه بكل الوسائل .. أن يجعلوه يصلح لهـم أى شىء .. ولكـنه رفض باصرار ..... وقرروا تهديده بقطع ذراعه إن لم يرضخ لطلبهم .....

وفعلا أدخلوه المستشفى .. وخرج منه مشلول الذراع اليمنى عن كل حركة " .

ودار حوار بين بطلة قصة " وقفة فى الضوء " ورفيقها فى السفر بقطار الصعيد ، بعد أن علمت منه أنه يفكر فى الهجرة لشعوره بالظلم وأنه لم يأخــذ حقه فى الحياة .

" فقالت له وقد غيرت من نبرة صوتها :
ـ ولكن كيف تهاجر ونحن فى حرب مع اسرائيل .. ومن الذى سيدافع عن امك واختك ؟ ..
ـ لست مجندا لقد تجاوزت سن التجنيد ..
ـ ولكن هذا بيتك .. عرضك وشرفك .. وطنك الصغير ، فكيف تتركه للآخرين ؟ ..
ـ لهما رب يحميهما ..
ـ الله أوجدك لهما .. وجعلك سببا .. فكيف تتركهما الآن وتهرب .. أنت هارب
ـ لقد فكرت فى الهجرة قبل الحرب ..
ـ ولكننا الآن فى حرب .. فأنت هارب من المعركة .. هارب .. "

*****

ليست هناك تعليقات: